كيف ننظر إلى ما يحدث في مأرب ؟
يمنات
طاهر شمسان
ما يحدث في مأرب هو معركة من معارك الحرب الدائرة منذ أكثر من ست سنوات، لكنها على ما يبدو المعركة الأكثر ضراوة من حيث كثافة النيران ومساحة جغرافيا الاقتتال وحجم الضحايا في الجانبين، غير أن حسمها لصالح هذا الطرف أو ذاك ليس هو الأمر الجوهري إذا نظرنا إلى الحرب من منظور المصلحة العليا للشعب اليمني التي هي مجموع مصالح كل أفراده من الخفير إلى الوزير. ولكي تتضح الصورة أكثر فأكثر دعونا أولاً نعدِّدُ التصنيفات الرائجة إعلاميا لمعركة مأرب:
1-هناك من يروّج لها على أنها معركة الدفاع عن الجمهورية وكسر المشروع الانقلابي الإمامي.
2-وهناك من يسوقها على أنها أهم معارك التصدي للعدوان وكسر مرتزقته.
3-وهناك طرف ثالث مكتفٍ حتى الآن بالمشاهدة وفيه من ينحاز قليلا لهذا الطرف أو ذاك. ويمكن تقسيم هذا الطرف الثالث إلى ثلاثة أقسام على النحو التالي:
1-قسم ينتظر-بصمت-من سينتصر لينضم إليه.
2-قسم يرى نفسه غير صاحب مصلحة في هذه المعركة-وفي الحرب عموما-أيٍّ كان المنتصر فيها، أي أنه غير مكترث رغم الانعكاسات السيئة للحرب على كل تفاصيل حياته.
3-قسم ثالث ينتظر بروز خطاب وطني جامع غير هذه الخطابات التي تتصارع، وهي بطبيعة الحال خطابات تداخلت فيها النزعات الطائفية والمذهبية بالجهوية والمناطقية وإن حاول بعض منتجيها الأذكياء ومروجيها الحاذقين التغطية على قبحها بمفردات منتقاة من المعجم السياسي الوطني.
ومهما يكن من أمر لم يعد خافيا على أحد أن الصراع المحتدم في طول اليمن وعرضه قد ألقى بظلاله الكثيفة على معيشة كل اليمنيين وعلى حقهم في الحياة وطال مدارس أبنائهم ملقيا بمستقبلهم إلى المجهول. وحتى أولئك الذين يستفيدون-الآن-استفادة مباشرة من الحرب سوف يدفعون الثمن ولو بعد حين، وإن لم يدفعوه بأشخاصهم فسيدفعونه بشخوص أبنائهم، وهذا لأن الاحتراب في مجمله تدمير همجي للوطن وللحياة ولقيم التعايش.
ورغم تطاول زمن الاحتراب واتساع كوارثه لم نسمع عن أية مراجعات بادر إليها هذا الطرف أو ذاك، لا في الخطاب ولا في الشعارات ولا في المواقف، فكل طرف لا يقبل بأقل من الانتصار على الطرف الآخر وتهشيم كل عظامه. وعلى افتراض أن انتصارا كلياً وكاسحاً حدث لطرف ما فما الذي سيترتب على ذلك؟ سيكون من قبيل التبسيط المخل والإسراف في الأوهام الاعتقاد بأن المنتصر في هذا الاحتراب سينتصر أيضا في السياسة وسيستتب له الأمر بتحقيق السيطرة الكاملة وتكريس الأمن والاستقرار وإنتاج الرخاء وكسب عقول وقلوب الجماهير.
إن انتصار هذا الطرف أو ذاك بواسطة الحرب لن يفضيَ لا إلى أمن وسلام ولا إلى استقرار ورخاء، وهذه حقيقة موضوعية لا تعترف بها أطراف الحرب ولا تريد لجماهيرها أن تفكر بها أو تقترب منها، وهذا لأن هذه الأطراف لا تجيد شيئا غير الضغط على الزناد وإشعال الحروب وليس لدى أي منها خيال سياسي لتبحث عن حلول وتجترح تنازلات متبادلة تنتصر بها لشعبها ولمستقبل أبنائها ولروح العصر، رغم علمها أن تاريخ اليمن معظمه دورات عنف لم تكن لتتوقف بانتصار هذا الطرف أو ذاك.
والأسوأ في الأمر أولئك المصطفون على جانبي الصراع لتشجيع هذا الطرف أو ذاك وكأنهم إزاء مباراة لكرة القدم. والاعتقاد السائد عند جزء كبير من المشجعين أن أي صوت يرتفع لصالح السلام هو خيانة أو على الأقل مساواة غير عادلة بين الضحية والجلاد، علما أن الضحية في هذا الاحتراب هو المواطن اليمني الذي فقد أمنه واستقراره والكثير من أهله وذويه وفقد راتبه وعمله ومصدر عيشه، أما أمراء الحرب من كل الأطراف فجميعهم جلادون وليس بينهم من يهتم بتقديم مشاريع للحياة وللسلام ولو في الحدود الدنيا. ولعل أسوأ أنواع المشجعين هم أولئك الذين يصنفون أنفسهم محللين سياسيين وقادة رأي ويتكاثرون في الرياض والقاهرة واستنبول وفي عواصم أخرى، وحين نراهم على القنوات الفضائية نتذكر فورا هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها وهن يضربن الدفوف خلف مقاتلي قريش في موقعة أُحُدْ مُنْشِداتٍ:
ويها بني عبد الدار ويها حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار
إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وامق
مع ملاحظة أن اختلاف روح العصر في السياقين يضع بنت عتبة في مرتبة أخلاقية أعلى من هؤلاء الذين يتحدثون عن جيش وطني في مواجهة مليشيات في بلد يعلمون يقينا أنه لم تعد فيه بندقية واحدة تطلق رصاصاتها لصالح شيء اسمه دولة أو جمهورية. والفارق بين هند وهؤلاء أنها أكلت كبد حمزة بينما هم يلعقون دماء آلاف اليمنيين الذين تحصدهم آلة الحرب على مدار الساعة
إن خبرة الحرب الدائرة منذ أكثر من ست سنوات تشجع أنصار الله على الاعتقاد أن معركة مأرب ستنتهي لصالحهم، لكن على هؤلاء أن يعلموا أن انتصارهم في هذه المعركة إذا حدث فهذا لا يعني أنهم انتصروا في الحرب وأن الأمور ستستتب لهم، فالحرب كما يقال سجال. وهذا الحكم يسري على الطرف الآخر حتى وإن وصلت مليشياته إلى العاصمة صنعاء وسيطرت على كل المؤسسات، فالرهان على انتصار البندقية داخل الوطن الواحد هو بالضرورة رهان خاسر لأن أي انتصار من هذا القبيل هو هزيمة لكل الوطن، وما حرب صيف 1994 عنا ببعيد حيث لم يرَ الوطن بعدها عافية، وما الحراك الجنوبي وحروب صعدة وحرب الحصبة وتفجير جامع النهدين والحرب الراهنة إلا من تداعيات تلك الحرب التي انتصر فيها علي صالح عسكريا وسقط أخلاقيا وسياسيا ووطنيا لينتهي على ذلك النحو المهين الذي لا نتمناه لأحد. ومن بين الدروس التي قدمتها حرب 1994 أن الذين تحالفوا فيها بشعارات وطنية ودينية عادوا وتقاتلوا فيما بينهم وتحول انتصارهم في الحرب إلى هزيمة للوطن الأمر الذي يدل دلالة قاطعة مانعة أن حلفاء حرب 1994 كانوا ومازالوا بلا مشاريع وطنية وأنهم مستمرون ليس بفضل برامجهم السياسية وإنما بفضل السلاح الذي راكموه والثروات المهولة التي نهبوها باسم الوطن وباسم الله وبالتمالؤ على وطنهم مع دول البترودولار.
على افتراض أن أنصار الله مستميتون في معركة مأرب للحصول على ورقة تفاوضية قوية كما يعتقد البعض فإننا نتساءل: مع من سيتفاوضون؟ بالتأكيد مع السعودية باعتبارها دولة معتدية على اليمن وباعتبارهم الطرف الذي يواجه عدوانها. ولكن ما جدوى التفاوض مع السعودية من منظور المصلحة العليا لليمن؟ لقد تفاوض معها علي صالح وأغلق ملف الحدود بين البلدين، ولأن مشروع التوريث كان هو شاغله الشاغل وليس المصلحة العليا لليمن فإننا لم نكسب شيئا من هذا التفاوض وإنما خسرنا مساحات واسعة في الجغرافيا وخسرنا معها الامتيازات التي أقرتها اتفاقية الطائف للمغترب اليمني بينما بقيت الوصاية السعودية على اليمن قائمة. والآن هل يريد أنصار الله لهذا السيناريو أن يتكرر معهم بعد كل هذا الدمار والخراب الذي أحدثته الحرب؟
نقول هذا لأن الجغرافيا سوف تفرض شروطها، وإيران بالنسبة لليمن خارج الجغرافيا وليس داخلها والرهان عليها من الناحية الموضوعية غير قابل للاستمرار. وقد حدث مثل هذا مع جنوب اليمن الذي فرَّ ذات يوم من تحديات جواره الإقليمي واعتبر نفسه جزءاً من حركة الثورة العالمية بقيادة الاتحاد السوفييتي، وقد فعل ذلك ليس من قبيل الانجذاب المعرفي لتعاليم ماركس ولينين وإنما كخيار سياسي يحافظ به على استقلاله وسيادته وسلامة أراضيه وسط محيط إقليمي غاشم ومعادٍ. وعندما انهارت المنظومة الاشتراكية لم يكن الجنوب مؤهلا لعودة آمنة إلى الجغرافيا، ولهذا كانت حرب 1994 أول ثمن يدفعه مقابل تلك العودة، وما يزال مسلسل الدفع مستمرا وليس آخره الاحتلال الإماراتي وحالة التشرذم التي تهدد وحدته بالتشظي.
ما الذي سيقدمه أنصار الله للشعب اليمني في حال تفاوضهم مع السعودية على إنهاء عدوانها سوى الحصول على اعترافها بهم كوكيل حصري لها في اليمن، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت. إن السعودية بالنسبة لليمن معضلة وطنية كبرى ومزمنة كونها مصدراً لتدفق المال السياسي إلينا ووقوع جزء كبير من نخبنا في فخ الارتهان للجنة الخاصة الحاضنة الطبيعية لجمهورية مشيخة العصيمات التي يقاتل التجمع اليمني للإصلاح الآن تحت رايتها، وهي الجمهورية التي لم تتسع إلا لعلي صالح والإسلام الاخواني والقبلي والجماعات السلفية ولم تقبل بغير هؤلاء.
إن التفاوض مع السعودية لا يمكن أن يحظى بالشرعية والمشروعية ما لم تحركه المصلحة الوطنية العليا لليمن، وليس بمقدور أي طرف أن ينصِّب نفسه ممثلا لهذه المصلحة لمجرد أنه يمتلك السلاح الذي يفرض به إرادته على غيره داخل الوطن. وعلى هذا الأساس علينا أن نفرق بين من يريد أن يفاوض السعودية ليكون وكيلا حصريا لها يستقوي بها على غيره داخل الوطن وبين من يريد أن يفاوضها باسم الوطن ولمصلحة كل الوطن أرضا وإنسانا. وفي حدود علمنا لا يوجد حتى الآن بين أطراف الاحتراب من يجرؤ على القول إنه مؤهل للتفاوض مع السعودية بالمعنى الثاني إلا على مستوى السجال الإعلامي أما على المستوى السياسي والقانوني فلا، بما في ذلك الطرف الذي يسمي نفسه شرعية وحالته في عدن أسوأ من حالة مهجري الجعاشن بدون توكل كرمان.
أما إذا تعلق الأمر بالتسوية بين أطراف الاحتراب فهذا لا يحتاج إلى تفاوض ولا إلى أوراق ضغط وإنما إلى حوار أساسه الندية والقبول المتبادل بصرف النظر عن ميزان القوى الراهن على الأرض، والرهان في هذه الحالة لا يجب أن ينصرف إلى السيطرة على مأرب أو الدفاع عنها وإنما إلى مشروع دولة لكل مواطنيها. ومما يؤسف له أن أحدا من أطراف الحرب لم يقدم بعد نموذجا جاذبا في مناطق سيطرته. والجاذبية التي نقصدها ليس نهضة اقتصادية نعلم استحالتها في ظروف الحرب وإنما الحد الأدنى من الإجراءات والتدابير والتصرفات الدالة على حضور الوعي بدولة المواطنة وإعلاء سيادة القانون واحترام الحريات المدنية وحقوق الإنسان.
لقد تطاول زمن الحرب وطالت أوجاعها وآلامها كل اليمنيين، وعلى “الشرعية المعترف بها دوليا” والمدعومة خارجيا أن تدرك أن ارتهانها للخارج هو الزيت الذي سيبقي على نار الحرب مشتعلة دون توقف وعلى حساب وحدة الوطن وسيادته وسلامة أراضيه وتماسك نسيجه الاجتماعي. وعلى سلطة أنصار الله أن تسلك كل مسلك من شأنه مساعدة “الشرعية” على العودة إلى حضن الوطن والذهاب إلى مصالحة وطنية حقيقية تشجعها على الفكاك من حالة الارتهان للخارج التي يبدو أنها قد أصبحت ضرورة مفروضة عليها وليس مجرد ترف. وفي المقابل على “الشرعية” أن تكف عن تضليل الشعب اليمني بأحاديثها الممجوجة عن خطر الإمامة المزعوم والدفاع عن الجمهورية الذي تحول إلى شعار للتسول والابتزاز والتعبئة الطائفية والعنصرية.
إن الجمهورية لا يمكن أن تتحقق فعليا إلا بدولة لكل مواطنيها السيادة فيها للقانون وليس لفساد مراكز القوى. والتطلع الجاد إلى الجمهورية يبدأ بصناعة رأي عام مستنير مشبع بثقافة المواطنة. والرأي العام المستنير يتشكل بخطاب وطني مسئول وليس بخطاب عرقي وطائفي ومناطقي طافح بمفردات من قبيل “هواشم وفرس ومجوس وأقيال وقناديل وزنابيل” وغيرها من مفردات الانحطاط السياسي التي يراد بها الشرعنة لحروب أهلية مستدامة.
لقد شهد اليمن حربا أهلية استغرقت معظم ستينيات القرن الماضي، وكان المتحاربون يمنيين خُلَّصَاً ليس بينهم فرس ولا مجوس وإنما كانوا منقسمين في خياراتهم السياسية إلى جمهوريين وملكيين إماميين وليس إلى هواشم وأقيال. وقد انتهت الحرب بخروج الإمامة كمشروع سياسي من مسرح التاريخ. وخلال نحو قرابة ستين عاما مضت تشكل في اليمن واقع جديد له إملاءات وشروط مختلفة لم تعد معها الإمامة تمثل تحديا حقيقيا. وإذا حصل وبعث الله الإمام الهادي ليحكم اليمن فسوف يحكم باسم الجمهورية وتحت رايتها، وغاية ما يمكن أن يفكر به هو تصفير عداد الرئاسة والتهيئة للتوريث كما حاول “الجمهوري” علي عبد الله صالح أن يفعل وفشل.
ومن المغالطات الكبرى في الحرب الراهنة الحديث عن جيش وطني لا نعلم أين هو. وفي حدود علمنا أن خارطة القوة في البلاد تتشكل من مليشيا أنصار الله ومليشيا التجمع اليمني للإصلاح ومليشيا المجلس الانتقالي ومليشيا طارق عفاش ومليشيا الجماعات السلفية ثم مليشيا النخبة الحضرمية ومليشيا النخبة الشبوانية. وأن يقاتل التجمع اليمني للإصلاح تحت شعار “الشرعية” فهذا لا يعني أن مليشياته قد أصبحت جيشا وطنيا أي كانت هيكليتها ومسمياتها. وعدم الاعتراف بهذه الحقيقة يعد التحدي الأكبر أمام أي تسوية سياسية يتعذر نجاحها ما لم تقم على نزع سلاح المتحاربين لصالح مشروع الدولة الضامنة.
إن جوهر المشكلة اليمنية يكمن في أن مسار التطور التاريخي الموضوعي لهذا البلد لم يفضِ إلى بناء دولة لكل مواطنيها، وهذه مشكلة مزمنة لها أكثر من بُعْدْ وأمامها أكثر من تحدٍ، وعندما ذهب اليمنيون إلى مؤتمر الحوار الوطني إنما ذهبوا لمناقشتها وحلها بتحويل جغرافيتهم إلى وطن بحسب تعبير صاحب “عبور المضيق”. لكن لم يكد مؤتمر الحوار الوطني ينهي أعماله حتى وقع الانقلاب عليه من داخله، وكان انقلابا إصلاحيا-مؤتمريا أخرجه الرئيس هادي. وخلاصة القول إن السجال الإعلامي حول مأرب لا يجب أن يلهينا عن رؤية جوهر المشكلة.
ط.ش 30 أبريل 2021
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520.